فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ}
تقدّم ذكر كَوْنِ الشيطان عدوّ الإنسان، فانجرّ الكلام إلى ذكر آدم.
والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوّهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبَى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى: {فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} أي من طين.
وهذا استفهام إنكار.
وقد تقدّم القول في خلق آدم في البقرة، والأنعام مستوفًى.
{قَالَ أَرَأَيْتَكَ} أي قال إبليس.
والكاف توكيد للمخاطبة.
{هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي فضّلته عليّ.
ورأى جوهر النار خيرًا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة.
وقد تقدّم هذا في الأعراف.
و{هذا} نصب بأرأيت.
{الذي} نعته.
والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد.
وفي الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع.
وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف، أي أترى هذا الذي كرمته عليّ لأفعلن به كذا وكذا.
ومعنى {لأَحْتَنِكَنَّ} في قول ابن عباس: لأستولِيَنّ عليهم.
وقاله الفراء.
مجاهد: لأحتوِيَنّهم.
ابن زيد: لأضلنهم.
والمعنى متقارب، أي لأستأصلنّ ذريته بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنّهم.
وروي عن العرب: احْتَنَك الجراد الزرع إذا ذهب به كلّه.
وقيل: معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودَنّهم حيث أردت.
من قولهم: حنكت الفرس أحنِكه وأحنُكه حنكا إذا جعلت في فيه الرّسن.
وكذلك احتنكه.
والقول الأوّل قريب من هذا، لأنه إنما يأتي على الزرع بالحَنَك.
وقال الشاعر:
أشكو إليك سَنَةً قد أجحفت ** جهدا إلى جهدٍ بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واجتلفت

{إَلاَّ قَلِيلًا} يعني المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وإنما قال إبليس ذلك ظنا، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أو علم من طبع البشر تركّب الشهوة فيهم، أو بنى على قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}.
وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عَزْمًا.
{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)}.
قوله تعالى: {قَالَ اذهب} هذا أمر إهانة، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك.
{فَمَن تَبِعَكَ} أي أطاعك من ذرية آدم.
{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا} أي وافرًا، عن مجاهد وغيره.
وهو نصب على المصدر، يقال: وفَرته أفِرُه وَفْرًا، ووَفَر المالُ بنفسه يَفِر وفورًا فهو وافر، فهو لازم ومتعدّ.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {واستفزز} أي استزلّ واستخفّ، وأصله القطع، ومنه تفزّز الثوب إذا انقطع.
والمعنى استزِلّه بقطعك إياه عن الحق.
واستفزّه الخوف أي استخفه.
وقعد مُسْتَوْفِزًا أي غير مطمئن.
{واستفزز} أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت.
الثانية: قوله تعالى: {بِصَوْتِكَ} وصوتُه كلُّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى، عن ابن عباس.
مجاهد: الغناء والمزامير واللهو.
الضحاك: صوت المزمار.
وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزَمَر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزَنَوا، ذكره الغزنوِيّ.
وقيل: {بصوتك} بوسوستك.
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أصل الإجلاب السوقُ بجلبة من السائق، يقال: أجلب إجلابا.
والجَلَب والجَلَبة: الأصوات، تقول منه: جلّبوا بالتشديد.
وجَلَب الشيء يجلِبه ويجلُبه جَلَبًا وجَلْبا.
وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنًى.
وأجلب على العدوّ إجلابًا، أي جمّع عليهم.
فالمعنى أجمع عليهم كلما تقدر عليه من مكايدك.
وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلًا ورجلًا من الجن والإنس، فما كان من راكب وماشٍ يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجّالته.
وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مَشَتْ في معصية الله، وكلّ مال أصيب من حرام، وكلّ ولد بَغِيّة فهو للشيطان.
والرَّجْل جمع راجل، مثلُ صَحْب وصاحب.
وقرأ حفص: {ورَجِلك} بكسر الجيم وهما لغتان، يقال: رَجْل ورَجِل بمعنى راجل.
وقرأ عكرمة وقتادة {ورجالك} على الجمع.
الرابعة: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} أي اجعل لنفسك شركة في ذلك.
فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن.
وقيل: هي التي أصابوها من غير حِلّها، قاله مجاهد.
ابن عباس: ما كانوا يحرّمونه من البَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحام.
وقاله قتادة.
الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم.
والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس.
وعنه أيضًا هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم.
وعنه أيضًا: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العُزَّى وعبد الّلات وعبد الشمس ونحوه.
وقيل: هو صِبغة أولادهم في الكفر حتى هوّدوهم ونصّروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم، قاله قتادة.
وقول خامس روي عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يُسَمِّ انطوى الجانّ على إحْلِيله فجامع معه، فذلك قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} وسيأتي.
وروي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فيكم مُغَرِّبين قلت: يا رسول الله، وما المغرّبون؟ قال: الذين يشترك فيهم الجن» رواه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول.
قال الهَرَوِيّ: سموا مغرِّبين لأنه دخل فيهم عرق غريب.
قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط، فمنهم من يتزوّج فيهم، وكانت بِلْقِيس ملكة سَبَأ أحد أبويها من الجن.
وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {وَعِدْهُمْ} أي مَنّهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أوْلى بالجنة من غيركم.
يقوّيه قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120] أي باطلًا.
وقيل {وَعدْهُمْ} أي عِدهم النُّصرة على من أرادهم بسوء.
وهذا الأمر للشيطان تهدّد ووعيد له.
وقيل: استخفاف به وبمن اتبعه.
السادسة: في الآية ما يدلّ على تحريم المزامير والغناء واللّهو، لقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم} على قول مجاهد.
وما كان من صوت الشيطان أو فعلِه وما يستحسنه فواجب التنزه عنه.
وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع! أتسمع؟ فأقول نعم، فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمّارة راع فصنع مثل هذا.
قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة لقمان إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
قال ابن عباس: هم المؤمنون وقد تقدّم الكلام فيه.
{وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}.
حنك الدابة واحتنكها: جعل في حنكها الأسفل حبلًا يقودها به، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها.
قال:
نشكوا إليك سنة قد أجحفت ** جهدًا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وحنفت، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي آكلَهما.